فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.سورة ص:

مكية كما روي عن ابن عباس وغيره.
وقيل: مدنية وليس بصحيح كما قال الداني.
وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي وخمس وثمانون في عد أيوب بن المتوكل وحده قيل ولم يقل أحد إن ص وحدها آية كما قيل في غيرها من الحروف في أوائل السور وفيه بحث.
وهي كالمتممة لما قبلها من حيث أنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء عليهم السلام كداود وسليمان ولما ذكر سبحانه فيما قبل عن الكفار أنهم قالوا لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم بدأ عز وجل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما أجمل هناك من كفرهم وفي ذلك من المناسبة ما فيه ومن دقق النظر لاح مناسبات أخر والله تعالى الموفق.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

{ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1)}
{ص} بالسكون على الوقف عند الجمهور، وقرأ أبي. والحسن. وابن أبي إسحق وأبو السماء. وابن أبي عبلة. ونصر بن عاصم {صاد} بكسر الدال؛ والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين وهو حرف من حروف المعجم نحو {تَعْمَلُونَ ق} و{ن}.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه أمر من صادي أي عارض، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت الأول ويقابله ثله في الأماكن الخالية والأجسام الصلبة العالية، والمعنى عارض القرآن بعملك أي إعمل بأوامره ونواهيه، وقال عبد الوهاب: أي أعرضه على عملك فانظر أين عملك من القرآن، وقيل هو أمر من صادى أي حادث، والمعنى حادث القرآن، وهو رواية عن الحسن أيضًا وله قرب من الأول. وقرأ عيسى. ومحبوب عن أبي عمرو. وفرقة {صاد} بفتح الدار، وكذا قرؤا قاف ونون بالفتح فيهما فقيل هو لالتقاء الساكنين أيضًا طلبًا للخفة، وقيل هو حركة إعراب على أن {صاد} منصوب بفعل مضمر أي اذكر أو اقرأ صاد أو بفعل القسم بعد نزع الخافض لما فيه من معنى التعظيم المتعدي بنفسه نحو الله لأفعلن أو مجرور بإضمار حرف القسم، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بناء على أنه علم للسورة، وقد ذكر الشريف أنه إذا اشتهر مسمى بإطلاق لفظ عليه يلاحظ المسمى في ضمن ذلك اللفظ وأنه بهذا الاعتبار يصح اعتبار التأنيث في الاسم. وقرأ ابن أبي إسحق في رواية {صاد} بالجر والتنوين، وذلك إما لأن الثلاثي الساكن الوسط يجوز صرفه بل قيل إن الأرجح، وإما لاعتبار ذلك اسمًا للقرآن كما هو أحد الاحتمالات فيه فلم يتحقق فيه العلتان فوجب صرفه، والقول بأن ذاك لكونه علمًا لمعنى السورة لا للفظها فلا تأنيث فيه مع العلمية ليكون هناك علتان لا يخلو عن دغدغة. وقرأ ابن السميقع. وهرون الأعور. والحسن في رواية {صاد} بضم الدال، وكأنه اعتبر اسمًا للسورة وجعل خبر مبتدأ محذوف أي هذه صاد، ولهم في معناه غير متقيدين بقراءة الجمهور اختلاف كاضرابه من أوائل السور، فأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن {العالمين ص} فقالا: ما ندري ما هو، وهو مذهب كثير في نظائره، وقال عكرمة: سئل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن {ص} فقال: ص كان بحرًا كة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار.
وقال ابن جبير: هو بحر يحيي الله تعالى به الموتى بين النفختين، والله تعالى أعلم بصحة هذين الخبرين.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: {ص} صدق الله، وأخرج ابن مردويه عنه أنه قال: {ص} يقول إني أنا الله الصادق، وقال محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله تالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد.
وقيل هو إراشة إلى صدور الكفار عن القرآن، وقيل حرف مسرود على منهاج التحدي، وجنح إليه غير واحد من أرباب التحقيق، وقيل اسم للسورة وإليه ذهب الخليل. وسيبويه. والأكثرون، وقيل اسم للقرآن وقيل غير ذلك باعتبار بعض القراآت كما سمعت عن قريب، ومن الغرييب أن المعنى صاد محمد صلى الله عليه وسلم قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ولعل القائل به اعتبره فعلًا ماضيًا مفتوح الآخر أو ساكنه للوقف، وأنا لا أقول به ولا أرتضيه وجهالً، وهو على بعض هذه الأوجه لا حظ له من الإعراب، وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسمًا به ومفعولًا لمضمر وخبر مبتدأ محذوف، وعلى بعضها يتعين كونه مقسمًا به، وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك، وبالجملة إن لم يعتبر مقسمًا به فالواو في قوله سبحانه: {ص والقرءان ذِى} للقسم وإن اعتبر مقسمًا به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسمًا منصوبًا على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل، ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله و{بص} السورة أو بالعكس أو أريد {بص} البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو السورة، وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل، ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف.
وضعف جعل الواو للقسم أيضًا بناء على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف، والذكر كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس الشرف ومه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أو الذكرى والموعظة للناس على ما روى عن قتادة. والضحاك، أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد على ما قيل، وجواب القسم قيل مذكور فقال الكوفيون. والزجاج: هو قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ الناس} [ص: 64] وتعقبه الفراء بقوله: لا نجده مستقيمًا لتأخر ذلك جدًا عن القسم، وقال الأخفش هو {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} وقال قوم: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} [ص: 6] وحذفت اللام أي لكم لما طال الكلام كما حذفت من {قَدْ أَفْلَحَ} [الشمسِ: 9] بعد قوله تعالى: {والشمس} [الشمس: 1] حكاه الفراء. وثعلب، وتعقبه الطبرسي بأنه غلط لأن اللام لا تدخل على المفعول و{كَمْ} مفعول.
وقال أبو حيان: إن هذه الأقوال يجب إطراحها، ونقل السمرقندي عن بعضهم أنه {بَلِ الذين كَفَرُواْ} [ص: 2] إلخ فإن {بَلِ} لنفي ما قبله وإثبات ما بعده فمعناه ليس الذين كفروا إلا في عزة وشقاق.
وجوز أن يريد هذا القائل أن {بَلِ} زائدة في الجواب أو ربط بها الجواب لتجريدها لمعنى الإثبات، وقيل هو صاد إذ معناه صدق الله تعالى أو صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونسب ذلك إلى الفراء. وثعلب، وهو مبني على جواز تقدم جواب القسم واعتقاد أن {ص} تدل على ماذكر، ومع هذا في كون ص نفسه هو الجواب خفاء، وقيل هو جملة هذه صاد على معنى السورة التي أعجزت العرب فكأنه: قيل هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر وهذا كما تقول: هذا حاتم والله تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله، وهو مبني على جواز التقدم أيضًا، وقيل هو محذوف فقدره الحوفي لقد جاءكم الحق ونحوه، وابن عطية ما الأمر كما تزعمون ونحوه، وقدره بعض المحققين ما كفر من كفر لخلل وجده ودل عليه بقوله تعالى: {بَلِ الذين} إلخ، وآخر إنه لمعجز ودل عليه ما في {ص} من الدلالة على التحدي بناء على أنه اسم حرف من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز أو ما في أقسم بص أو هذه ص من الدلالة على ذلك بناء على أنه اسم للسورة أو أنه لواجب العمل به دل عليه {ص} بناء على كونه أمرًا من المصاداة، وقدره بعضهم غير ذلك، وفي البحر ينبغي أن يقدر هنا ما أثبت جوابًا للقسم بالقرآن في قوله تعالى: {يس والقرءان الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 1-3].
ويقوى هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله تعالى: {وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ} [ص: 4] وهناك في قوله سبحانه: {لِتُنذِرَ قَوْمًا} فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة وجعل بل في قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (2):

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)}
{بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى ذكر حال تعزز الكفار ومشاقتهم في قبولهم رسالته صلى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به وهي كذلك على كثير من الوجوه السابقة، وقد تجعل على بعضها للإضراب عن الجواب بأن يقال مثلًا: إنه لمعجز بل الذين كفروا في استكبار من الإذعان لإعجازه أو هذه السورة التي أعجزت العرب بل الذين كفروا لا يذعنون، وجعلها بعضهم للإضراب عما يفهم مما ذكر ونحوه من أن من كفر لم يكفر لخلل فيه فكأنه قيل: من كفر لم يكفر لخلل فيه بل كفر تكبرًا عن اتباع الحق وعنادًا، وهو أظهر من جعل ذلك إضرابًا عن صريحه، وإن قدر نحو هذا المفهوم جوابًا فالإضراب عنه قطعًا. وفي الكشف عد هذا الإضراب من قبيل الإضراب المعنوي على نحو زيد عفيف عالم بل قومه استخفوا به على الإضراب عما يلزم الأوصاف من التعظيم كما نقل عن بعضهم عدول عن الظاهر، ويمكن أن يكون الجواب الذي عنه الإضراب ما أنت قصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم، ويشعر به الآيات بعد وسبب النزول الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فكأنه قيل ص والقرآن ذي الذكر ما أنت قصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم بل الذين كفروا مقصرون في اتباعك والاعتراف بالحق، ووجه دلالة ما في النظم الجليل على قولنا بل الذين كفروا مقصرون إلخ ظاهر، وهذه عدة احتمالات بين يديك وإليك أمر الاختيار والسلام عليك.
والمراد بالعزة ما يظهرونه من الاستكبار عن الحق لا العزة الحقيقية فإنها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وأصل الشقاق المخالفة وكونك في شق غير شق صاحبك أو من شق العصا بينك وبينه، والمراد مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتنكير للدلالة على شدتهما، والتعبير بفي على استغراقهم فيهما.
وقرأ حماد بن الزبرقان. وسورة عن الكسائي. وميمونة عن أبي جعفر. والجحدري من طريق العقيلي في {غرة} بالغين المعجمة المكسورة والراء المهملة أي في غفلة عظيمة عما يجب عليهم من النظر فيه، ونقل عن ابن الأنباري أنه قال في كتاب الرد على من خالف الإمام: إنه قرأ بها رجل وقال: إنها أنسب بالشقاق وهو القتال بجد واجتهاد وهذه القراءة افتراء على الله تعالى اه وفيه ما فيه.

.تفسير الآية رقم (3):

{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)}
{يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب اضرابهم، و{كَمْ} مفعول {أَهْلَكْنَا} و{مّن قَرْنٍ} تمييز، والمعنى، قرنًا كثيرًا أهلكنا من القرون الخالية {فَنَادَوْاْ} عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة لينجوا من ذلك، وقال الحسن. وقتادة: رفعوا أصواتهم بالتوبة حين عاينوا العذاب لينجو منه {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} حال من ضمير {نَادُواْ} والعائد مقدر وإن لم يلزم أي مناصهم ولات هي لا المشبهة بليس عند سيبويه زيدت عليها تاء التأنيث لتأكيد معناها وهو النفي لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى أو لأن التاء تكون للمبالغة كما في علامة أو لتأكيد شبهها بليس بجعلها على ثلاثة أحرف ساكنة الوسط، وقال الرضى: إنها لتأنيث الكلمة فتكون فتأكيد التأنيث واختصت بلزوم الأحيان ولا يتعين لفظ الحين إلا عند بعض وهو محجوج بسماع دخولها على مرادفه، وقول المتنبي:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ** والآن أقحم حتى لات مقتحم

وإن لم يهمنا أمره مخرج على ذلك بجعل المصطبر والمقتحم اسمي زمان أو القول بأنها داخلة فيها على لفظ حين مقدر بعدها؛ والتزموا حذف أحد الجزأين والغالب حذف المرفوع كما هنا على قراءة الجمهور أي ليس الحين حين مناص، ومذهب الأخفش أنها لا النافية للجنس العاملة عمل إن زيدت عليها التاء فحين مناص اسمها والخبر محذوف أي لهم، وقيل إنها لا النافية للفعل زيدت عليها التاء ولا عمل لها أصلًا فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب كما هنا فبعدها فعل مقدر عامل فيه أي ولا ترى حين مناص، وقرأ أبو السمال {وَّلاَتَ حِينَ} بضم التاء ورفع النون فعلى مذهب سيبويه {حِينٍ} اسم {لأَتٍ} والخبر محذوف أي ليس حين مناص حاصلًا لهم، وعلى القول الأخير مبتدأ خبره محذوف وكذا على مذهب الأخفش فإن من مذهبه كما في البحر أنه إذا ارتفع ما بعدها فعلى الابتداء أي فلاحين مناص كائن لهم. وقرأ عيسى بن عمر {وَّلاَتَ حِينَ} بكسر التاء مع النون كما في قول المنذر بن حرملة الطائي النصراني:
طلبوا صلحنا ولات أوان ** فأجبنا أن لات حين بقاء

وخرج ذلك إما على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر كلولاك ولولاه عند سيبويه، وإما على إضمار من كأنه قيل: لات من حين مناص ولات من أوان صلح كما جروا بها مضمرة في قولهم على كم جذع بيتك أي من جذع في أصح القولين، وقولهم: ألا رجل جزاه الله خيرًا...
يريدون ألا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعًا على أنه اسم لات عنى ليس كما تقول ليس من رجل قائمًا، والخبر محذوف على قول سيبويه وعلى أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول غيره، وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين أي ولات حين أوان صلح فحذفت حين وأبقى أوان على جره، وقيل: أن أوان في البيت مبني على الكسر وهو مشبه باذ في قول أبي ذؤيب:
نهيتك عن طلابك أم عمرو ** بعاقبة وأنت إذ صحيح

ووجه التشبيه أنه زمان قطع عنه المضاف إليه لأن الأصل أوان صلح وعوض التنوين فكسر للالتقاء الساكنين لكونه مبنيًا مثله فهما شبهان في أنهما مبنيان مع وجود تنوين في آخرها للعوض يوجب تحريك الآخر بالكسر وإن كان سبب البناء في أوان دون إذ شبه الغايات حيث جعل زمانًا قطع عنه المضاف إليه وهو مراد وليس تنوين العوض مانعًا عن الإلحاق بها فإنها تبني إذا لم يكن تنوين لأن علته الاحتياج إلى المحذوف كاحتياج الحرف إلى ما يتم به، وهذا المعنى قائم نون أو لم ينون فإن التنوين عوض لفظي لا معنوي فلا تنافي بين التعويض والبناء لكن اتفق أنهم لم يعوضوا التنوين إلا في حال إعرابها وكأن ذلك لئلا يتمحض للتعويض بل يكون فيها معنى التمكن أيضًا فلا منافاة، وثبت البناء فيما نحن فيه بدليل الكسر وكانت العلة التي في الغايات قائمة فأحيل البناء عليها، واتفق أنهم عوضوا التنوين هاهنا تشبيهًا باذ في أنها لما قطعت عن الإضافة نونت أو توفية لحق اللفظ لما فات حق المعنى، وخرجت القراءة على حمل {مَنَاصٍ} على أوان في البيت تنزيلًا لما أضيف إليه الظرف وهو {حِينٍ} منزلة الظرف لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد فقدرت ظرفيته وهو قد كان مضافًا إذا أصله مناصهم فقطع وصار كأنه ظرف مبني مقطوع عن الإضافة منون لقطعه ثم بنى ما أضيف إليه وهو {حِينٍ} على الكسر لإضافته إلى ما هو مبني فرضًا وتقديرًا وهو {مَنَاصٍ} المشابه لأوان. وأورد عليه أن ما ذكر من الحمل لم يؤثر في المحمول نفسه فكيف يؤثر فيما يضاف إليه على أن في تخريج الجر في البيت على ذلك ما فيه، والعجب كل العجب ممن يرتضيه، وضم التاء على قراءة أبي السمال وكسرها على قراءة عيسى للبناء، وروى عن عيسى {وَّلاَتَ حِينَ} بالضم {مَنَاصٍ} بالفتح، قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فلعله بني {حِينٍ} على الضم تشبيهًا بالغايات وبني {مَنَاصٍ} على الفتح مع {لأَتٍ} وفي الكلام تقديم وتأخير أي ولات مناص حين لكن لا إنما تعمل في النكرات المتصلة بها دون المنفصلة عنها ولو بظرف، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه انتهى، وأهون من هذا فيما أرى كون {حِينٍ} معربًا مضافًا إلى {مَنَاصٍ} والفتح لمجاورة واو العطف في قوله تعالى: {وَعَجِبُواْ} [ص: 4] نظير فتح الراء من غير في قوله:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامة في غصون ذات أرقال

على قول والأغلب على الظن عدم صحة هذه القراءة. وقرأ عيسى أيضًا كقراءة الجمهور إلا أنه كسر تاء {لأَتٍ} وعلم من هذه القراءات أن في تائها ثلاث لغات، واختلفوا في أمر الوقف عليها فقال سيبويه، والفراء وابن كيسان. والزجاج: يوقف عليها بالتاء، وقال الكسائي: والمبرد. بالهاء، وقال أبو علي: ينبغي أن لا يكون خلاف في أن الوقف بالتاء لأن قلب التاء هاء مخصوص بالأسماء؛ وزعم قوم أن التاء ليست ملحقة بلا وإنما هي مزيدة في أول ما بعدها واختاره أبو عبيدة، وذكر أنه رأى في الإمام {وَلاَ حِينَ مَنَاصٍ} برسم التاء مخلوطًا بأول حين، ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس الخطي إذ لم يقع في الإمام في محل آخر مرسومًا على خلاف ذلك حتى يقال ما هنا مخالف للقياس والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل، ومن هنا قال السخاوي في «شرح الرائية» أنا أستحب الوقف على لا بعد ما شاهدته في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد سمعناهم يقولون: اذهب تلان وتحين بدون لا وهو كثير في النثر والنظم انتهى، ومنه قوله:
العاطفون تحين لا من عاطف ** والمطعمون زمان ما من مطعم

وكون أصله العاطفونه بها السكت فلما أثبتت في الدرج قلبت تاء مما لا يصغى إليه، نعم الأول اعتبار التاء مع لا لشهرة حين دون تحين، وقال بعضهم: إن لات هي ليس بعينها وأصل ليس ليس بكسر الياء فأبدلت ألفًا لتحركها بعد فتحة وأبدلت السين تاء كما في ست فإن أصله سدس، وقيل: إنها فعل ماض ولات عنى نقص وقل فاستعملت في النفي كقل وليس بالمعول عليه، والمناص المنجا والفوت يقال: ناصه ينوصه إذا فاته، وقال الفراء: النوص التأخر يقال ناص عن قرنه ينوص نوصًا ومناصًا أي فروزاغ، ويقال استناص طلب المناص قال حارثة بن بدر يصف فرسًا له:
غمر الجراء إذا قصرت عنانه ** بيدي استناص ورام جرى المسحل

وعلى المعنى الأول حمله بعضهم هنا وقال: المعنى نادوا واستغاثوا طلبًا للنجاة والحال أن ليس الحين حين فوات ونجاة؛ وعن مجاهد تفسيره بالفراء، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: اخبرني عن قوله تعالى: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} فقال: ليس بحين فرار وأنشد له قول الأعشى:
تذكرت ليلى لات حين تذكر ** وقد بنت عنها والمناص بعيد

وعن الكلبي أنه قال: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض: مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص فقال الله تعالى: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} قال القشيري: فعلى هذا يكون التقدير فنادوا مناص فحذف لدلالة ما بعده عليه أي ليس الوقت وقت ندائكم به، والظاهر أن الجملة على هذا التفسير حالية أي نادوا بالفرار وليس الوقت وقت فرار، وقال أبو حيان: في تقرير الحالية وهم لات حين مناص أي لهم، وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجا ولا فوت فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرًا مثل جاء زيد راكبًا ثم تقول جاء زيد وهو راكب فحين ظرف لقوله تعالى: {فَنَادَوْاْ} انتهى.
وكون الأصل ما ذكر أن {حِينٍ} ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي لاسيما ما هو أفصح الكلام ولا أدري ما الذي دعاه لذلك.